ترامب والعالم الجديد- تحديات وفرص التسوية الدولية

في مقال يحمل عنوانًا قريبًا، استعرضتُ سلسلة من المحاور التي تشير إلى الوجهة التي يسلكها العالم الحديث، متتبعًا مسار حركته وتحولاته المتنوعة: (سلبية وإيجابية، فاعلة وكامنة، علنية وسرية، سلمية وحربية، اقتصادية وسياسية). السؤال الذي يطرح نفسه: من يقف وراء هذه التحولات العميقة؟ هل هي مؤسسات دولية "رسمية وخفية" تتلاعب بالفضاء الدولي، وتخلق تقاطعات متضاربة تعيق الفهم والربط بينها؟
لا شك أن "بوتين" يضطلع بدور محوري في إحداث تغيير عالمي، وفقًا لرؤية روسية استراتيجية، يتقاسم فيها الأدوار مع شركاء من "العالم الجنوبي"، وعلى رأسهم "الصين" الصاعدة.
أما بالنسبة لشخصية "ترامب"، فإننا أمام قراءة فريدة، فهو "رجل مرحلة" يسعى للفوز بفترة رئاسية وتحقيق مكاسب شخصية واقتصادية، وإن كان ذلك تحت ستار خدمة المصالح الوطنية العليا.
وكما أشرت سابقًا بإعجابي بـ "المركزية" التي تطغى على شخصية الرئيس "بوتين"، فإن الأمر ذاته ينسحب على الرئيس "ترامب"، الذي يتسم بالمركزية في القيادة والإدارة. هذه المركزية تسهم في إضفاء الوضوح على المشهد، وإن كان هذا الوضوح مشوبًا بالسلبية أحيانًا، بعيدًا عن المراوغة التي يتبعها الديمقراطيون، سواء "أوباما" أو "بايدن"، أو من سيخلفهم في المستقبل.
إن المشهد العالمي والتحولات الدولية المتسارعة تتطلب رؤية واقعية، تستند إلى مراجعة دقيقة للملفات الأكثر "اشتعالًا وأهمية" بالنسبة لعالمنا العربي والمملكة العربية السعودية، في سياق دورها الإقليمي، والتي تتعامل معها بحذر وعقلانية، جنبًا إلى جنب مع المشاريع التنموية الطموحة، وما يصاحبها من تشكلات لأنظمة إقليمية جديدة في محيطنا الخليجي المترامي الأطراف.
هذا الموضوع هو محور ورقة علمية أعمل على إعدادها للمشاركة بها في مؤتمر دولي في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2024، بعون الله وتوفيقه.
قد يبدو الحديث عن "ترامب" في هذا السياق ضربًا من المجازفة، ليس فقط لأنه استباق لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المرتقبة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بل أيضًا بالنظر إلى التحديات الجسام التي تعترض طريقه نحو البيت الأبيض مرة أخرى، وذلك لاعتبارات ثلاثة جوهرية.
التحديات الرئيسية في مسيرة ترامب الانتخابية
الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024 تضعنا أمام تفاصيل دقيقة للواقع الأميركي الراهن، وتكشف لنا خفايا مكوناته المتصدعة {الديمقراطية والمدنية}. وتجعلنا ندرك أننا نتعامل مع الولايات المتحدة استنادًا إلى تصورات مثالية ورثناها منذ سبعينيات القرن الماضي، بينما هي في حقيقة الأمر تعيش حالة من الانحدار والتراجع المطرد.
ومن زاوية أخرى، تجري الانتخابات الأميركية الحالية بين "الديمقراطيين" و"الترامبيين"، وليس بين "الجمهوريين"؛ فالحزب الجمهوري يبدو عاجزًا عن صياغة أجندة عمل واضحة المعالم، وقد فقد قادته التاريخيين من أمثال "آل بوش" ورفاقهم من جيل "رونالد ريغان"، وبات يعيش مرحلة "ضياع للهوية"، يعتبر فيها "ترامب" بمثابة المنقذ المؤقت، ريثما تتبلور توجهات جمهورية جديدة أكثر وضوحًا.
يختلف هذا الوضع تمامًا عن حال الديمقراطيين، الذين يتحركون وفق "عقيدة" راسخة، أرسى دعائمها "أوباما" وفريقه، ولا تزال هذه العقيدة فاعلة، ولها انعكاسات سلبية على المجتمع الأميركي على كافة الأصعدة "أخلاقيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا". ولذلك، تبدو المعادلة الترامبية الأقرب للفوز في المشهد الأميركي الحالي، في ظل التراجع الملحوظ للديمقراطيين، والتهديدات المتزايدة باندلاع أزمة داخلية قد تصل إلى حد "الحرب الأهلية"، كما أشار بعض الجمهوريين المحافظين.
وعلى الرغم من ذلك، لا يزال طريق "ترامب" إلى البيت الأبيض محفوفًا بالمخاطر والتحديات، فهو يقود أميركا نحو مرحلة مضطربة، والاحتقان الذي أفضى إلى محاولة اغتياله لا يزال قائمًا ومستمرًا:
- اليهود عالقون بين ملفي أوكرانيا وغزة: طريقة تعامل "ترامب" مع هذين الملفين ستكون وفقًا لمعادلة اقتصادية بحتة، وهو ما يرفضه الصهاينة من "الأميركيين والإسرائيليين" على حد سواء.
- رؤية "ترامب" للعلاقات مع أوروبا تضع حلف "الناتو" أمام تحديات جمة في التعامل مع "روسيا"، ليس فقط في سياق الملف الأوكراني، بل في مسارات أوروبية أخرى، بما في ذلك ملف "البوسنة والهرسك"، أو ما يمكن تسميته "قوس عدم الاستقرار"، الذي يمتد عبر شرق وجنوب شرق أوروبا.
فموسكو تواجه السياسة الغربية في هذه المنطقة عبر تحالف روسي متين وطويل الأمد مع قيادة "صربسكا"، التي تعد أحد المكونات الأساسية للبوسنة والهرسك إلى جانب مسلمي البوسنة. وقد تعاظم هذا التحدي الروسي مع اندلاع الصراع الدائر في أوكرانيا. والخطر الأكبر بالنسبة لدول الناتو يكمن في احتمال تخلي أميركا عنها ولو بشكل جزئي، بعد أن تورطت في المستنقع الأوكراني في مواجهة روسيا، وما نتج عن ذلك من مسارات سياسية واقتصادية معقدة متشابكة. - الملف النووي الإيراني واحتمال لجوء "ترامب" إلى تكرار سيناريو المواجهة الذي طبع فترة رئاسته الأولى بشأن الملف النووي، والذي كان يحمل في طياته تحديًا للديمقراطيين الأميركيين أكثر منه للإيرانيين.
إيران تعيش حاليًا مرحلة من الحسم الاستراتيجي، والمقايضة مع الجانب الإسرائيلي، في سبيل اقتسام النفوذ في شمال الجزيرة العربية، وخاصة إذا تم التوصل إلى "توافق فلسطيني" برعاية صينية، وقد سبق تناول هذا الأمر في مناسبات علمية وإعلامية مختلفة تحت عنوان "المرحلة العربية الراهنة ومآلات المستقبل".
والمعنى الضمني هنا هو أن إيران لا تملك رفاهية الوقت للتوقف مجددًا انتظارًا لانتهاء ولاية "ترامب" في حال فوزه بالرئاسة. كما أنه من المستحيل أن تتراجع خطوات إلى الوراء في مشروعها الإقليمي، الذي وصل إلى مرحلة "قطف الثمار" بالتعاون والتنسيق مع إسرائيل، وبمباركة ضمنية من أميركا وفرنسا وبريطانيا.
الفوضى المحتملة
هذه التحديات التي تواجه "ترامب" تنذر بمواجهة عاصفة في الداخل الأميركي، فهناك "لاعبون مؤثرون" نافذون لا يرغبون في وصوله إلى السلطة، وفي الوقت نفسه، فإن احتمال خسارته للانتخابات كما حدث في عام 2020 يهدد بفوضى عارمة، قد تتجاوز وتفوق ما حدث خلال "تجربة اقتحام الكونغرس"، وهو ما لوح به "ترامب" لمنافسيه بالفعل، الأمر الذي يجعل الأمور تقف على حافة "الحرب الأهلية" لا قدر الله.
إن المعركة على أشدها بين "الدولة العميقة" و"ترامب"، وهي تسعى جاهدة لتصفيته معنويًا وسياسيًا من خلال المحاكم والقضاء، وإذا باءت هذه المحاولات بالفشل، فما الذي يمنع في ظل هذا الجو المشحون بالاحتقان والانقسام أن تتكرر محاولات التصفية الجسدية، التي نُسبت محاولتها الفاشلة إلى شاب يمقت "ترامب" ويكرهه بشدة؟
وعلى الرغم من كل هذه المعطيات والمؤشرات، فإن الوضع الأميركي المعقد قد يميل في نهاية المطاف إلى الدفع بـ "ترامب" إلى سدة الرئاسة، من أجل تجاوز المخاطر الآتية المحتملة، وتأجيل المشاكل إلى فترة لاحقة.
فوضوية المتغيرات الترامبية
النزعة الفردية في اتخاذ القرارات تعد من أبرز السمات التي تطبع شخصية "ترامب"، وفريق عمله سيكون "تابعًا" له في الغالب، بدلًا من أن يكون استشاريًا فاعلًا ومؤثرًا. إن الحسابات السياسية لدى "ترامب" تحكمها المنفعة الاقتصادية المباشرة، فهو لا يتحرك لحل أي ملف سياسي، إلا إذا قدم الطرف الآخر منافع اقتصادية ملموسة للولايات المتحدة، ولن تكون أوكرانيا، ولا الأمن الأوروبي الشامل استثناءً من هذه القاعدة الراسخة، أما فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، فإن مساوماته في هذا الشأن تتسم بالصراحة والوضوح.
ولهذا السبب، ستجد العديد من الملفات الحساسة والخطيرة نفسها في مواجهة "الفوضوية الترامبية"، ويتعين على أصحاب المصالح في هذه الملفات أن يتعاملوا مع هذا الواقع بحذر وجدية بالغين.
وهنا يهمنا بشكل خاص الشأن الخليجي، الذي يعاني من تناقضات داخلية منذ إقدام بعض دوله على توقيع اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. ستكون المعادلة معقدة للغاية، وتتطلب موازنة دقيقة بين المصالح الإسرائيلية مع الدول المطبعة، والحقوق الفلسطينية وتداعيات مأساة غزة، وموقف بقية دول الخليج التي لم تنخرط في هذه الاتفاقيات. وفي المقابل، تبرز إيران بملفاتها الشائكة الضاغطة على الأمن القومي الخليجي والعربي، من خلال حضورها المتزايد في اليمن، وسوريا، والعراق، ولبنان.
هل سيقبل ترامب أن يكون تابعًا لمشاريع الجنوب العالمي وفق منافع اقتصادية مشتركة؟
باستثناء الدور الفعال الذي تضطلع به منظمة شنغهاي للتعاون الأمني في المجالين السياسي والأمني، هناك عدد من المسارات الاقتصادية التي قد تستقطب "مزاج ترامب البراغماتي" للتوافق مع الصين وروسيا، ولا سيما لما لهذه المسارات والمنظومات من دور فاعل في إحداث التوازن على الساحة العالمية، ومن بين هذه المسارات والمنظومات:
- طريق الحرير الصيني والحزام الاقتصادي ومساراته الدولية: بالإضافة إلى التحالفات والشراكات المتعددة التي تصاحب هذا المشروع الضخم.
- مجموعة تحالف بريكس: التوسع المتسارع في عضويته، والزيادة المطردة في حجم الناتج المحلي الإجمالي لأعضائه، والذي تجاوز إنتاج مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى.
- أوبك+: دوره المحوري في ضبط اتجاهات سوق الطاقة العالمي، وتحقيق التوازن بين العرض والطلب، قد يتعزز في حال التوصل إلى تفاهم مع "ترامب" وفتح مسار موازٍ لقطاع الغاز.
ومع ذلك، ستبقى هناك خطوط حمراء قد لا يقبل بها الجانب الأميركي، سواء كان "ترامب" في سدة الرئاسة أم غيره، وتتمثل هذه الخطوط الحمراء في:
- تقليص دور المؤسسات المالية الدولية التقليدية التي تخدم المصالح الغربية بالدرجة الأولى.
- الحد من هيمنة الدولار الأميركي ونظام سويفت (SWIFT) على الحركة الاقتصادية الدولية برمتها.
كما تبرز مجموعة من العوامل التي قد تسهم في تحقيق تفاهم روسي أميركي، يفضي إلى تهدئة الأوضاع على الصعيد العالمي برمته:
- الحد من الدعم الأميركي للمؤسسات الحقوقية العابرة للقارات: التي تنسجم مع القيم الغربية وأجنداتها الاجتماعية والثقافية والدينية، والتي تتعارض مع الأجندة الروسية التقليدية، وتلتقي مع توجهات "ترامب" الرافضة للشذوذ والمثلية الجنسية.
- التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية: وهذا أمر بالغ الأهمية لتحقيق الاستقرار العالمي المنشود. يدعم هذا التوجه التصريحات الأخيرة للرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي"، والتي جاءت في مسارين متوازيين: الأول: القبول بفكرة عقد مؤتمر دولي للسلام بمشاركة روسيا، وهذا يعد تحولًا جوهريًا. الثاني: تصريحه بعدم جدوى الحل العسكري للأزمة، وأن الحلول الدبلوماسية قد تكون ممكنة على المدى البعيد، وهذا أيضًا يمثل تحولًا استراتيجيًا لافتًا.
ويبقى التعويل معقودًا على الدور الذي يمكن أن تلعبه العلاقة الثنائية بين "ترامب" و"بوتين" في تخفيف حدة الموقف الروسي، وترسيخ ثوابته بشأن السلام في أوكرانيا: (إزالة النازية، نزع السلاح، وضع أوكرانيا على الحياد السياسي، والاعتراف بالوضع الراهن لشبه جزيرة القرم، والمناطق الأربع الواقعة جنوب شرق أوكرانيا).
التحديات المستقبلية لترامب
إذا كان الرئيس "بوتين" قد وضع نفسه في مواجهة تحديات "مستقبل العالم الجديد"، فإن "ترامب"، في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية، سيواجه تحديًا أكبر في سياق ما يمكن تسميته "المتغيرات الفاعلة للتسوية والتهدئة الدولية". ولن تخلو هذه التسوية من تنازلات "سياسية" متبادلة بين روسيا وأميركا. العالم سيكون هو الرابح الأكبر من هذه التسوية، وسوف يتيح ذلك للجانب الأميركي فرصة "لالتقاط الأنفاس" في ملف "تايوان" المعقد، والخروج من عنق الزجاجة لأزمة الدين العام الأميركي المتفاقمة.
في المقابل، ستكون هذه التسوية بمثابة فرصة سانحة لروسيا/بوتين لتغيير استراتيجياتها وتكتيكاتها "غير المكلفة عسكريًا" من أجل المضي قدمًا في مشاريعها الاستراتيجية "الأحادية" أو المشتركة مع حلفائها، والتي من أبرزها:
- الرؤية الاستراتيجية الروسية لعالم متعدد الأقطاب.
- التوجه الروسي المتسارع نحو الحد من النفوذ الغربي، الأمر الذي يمثل خيارًا عالميًا مفيدًا ومرحبًا به.
- تنمية قدرات "الجنوب العالمي" اقتصاديًا بمعزل عن "الدولار" ومنظوماته المالية التقليدية المسيطرة.
- خلق مساحة من الانسجام بين "المؤسسات الأممية" والتحولات "السياسية والأمنية والاقتصادية" التي تقودها روسيا.
- زيادة الاهتمام الروسي بمنطقة الخليج العربي، وتنمية وتطوير العلاقات مع دوله الشقيقة.
قد يؤدي هذا السيناريو إلى خلق مساحة تنافسية سلبية جديدة بين "أميركا" و"روسيا". فكيف سيستطيع "ترامب" التعامل مع هذا الواقع المستجد إذا ما تبوأ منصب الرئيس الأميركي القادم؟